## مراجعة احترافية: "تويست" لكولوم ماكان - رحلة في أعماق الحقيقة والاتصال الإنساني المفقود
**مقدمة: إرث "أبيروغون" وتوقعات "تويست"**
حينما يطرح كاتب بحجم ووزن كولوم ماكان عملاً
جديداً، تتجه الأنظار نحوه بترقب وشغف. فبعد النجاح النقدي والجماهيري الساحق
لروايته "أبيروغون" (Apeirogon)، التي اعتبرها الكثيرون ومنهم كاتب هذه السطور، واحدة من أهم
وأفضل الأعمال الأدبية لعام 2020، باتت التوقعات المعقودة على جديده، "تويست"
(Twist)، تحلق في عنان السماء.
![]() |
## مراجعة احترافية: " لرواية تويست" لكولوم ماكان |
هل يستطيع ماكان، المعروف
بقدرته الفذة على نسج السرديات المعقدة والغوص في أعماق التجربة الإنسانية، أن
يكرر إنجازه أو حتى يتجاوزه؟ الإجابة، وبكل سرور وتأكيد، هي "نعم". فروايته
الجديدة "تويست" لا تكتفي بتلبية تلك التوقعات العالية، بل تتخطاها،
مقدمةً للقارئ تجربة أدبية مذهلة، عميقة، ومربكة بجمالياتها، تؤكد مجدداً أننا
أمام قامة أدبية في أوج نضجها الإبداعي.
**عالم الكابلات البحرية شريان المعلومات وقلب الظلام الجديد**

عالم الكابلات البحرية، تلك
الألياف الضوئية الممتدة كشبكة عنكبوتية هائلة في قيعان المحيطات، حاملةً على
عاتقها نقل 99% من بيانات العالم الرقمي. بطل الرواية هو أنتوني فينيل، صحافي
وكاتب مسرحي إيرلندي، شخصية مركبة تحمل أعباءها الخاصة وتصارع شياطينها الداخلية،
يُكلّف بمهمة صحافية لكتابة تقرير موسع عن هذه الشرايين المعلوماتية الخفية. تقوده
مهمته إلى كيب تاون في جنوب أفريقيا، حيث من المقرر أن يصعد على متن "جورج
لوكونت"، سفينة متخصصة في إصلاح هذه الكابلات الحيوية.
- على متن السفينة، يلتقي فينيل بشخصية محورية أخرى ستلقي بظلالها الكثيفة على مسار الأحداث
- وحياته: جون كونواي، قائد البعثة. كونواي ليس مجرد قائد عادي؛ إنه غطاس أسطوري، متهور
- يكتنفه الغموض، يمتلك شجاعة граничащая بالجنون للنزول إلى أعماق سحيقة لا يمكن تصورها
- لإصلاح الأنابيب المتضررة. يمثل كونواي الانغماس الحرفي والمجازي في المجهول، في الأعماق
- المظلمة التي تحمل أسرار الاتصال العالمي وتخفي في طياتها أخطاراً جمة.
**نقطة التحول الاختفاء والبحث عن الحقيقة**
.jpeg)
ويختفي جون كونواي في ظروف غامضة في أعماق المحيط المظلمة. هنا، تتحول مهمة فينيل الصحافية البحتة إلى رحلة شخصية محمومة ومضطربة. لم يعد الأمر مجرد كتابة تقرير؛ بل أصبح بحثاً مستميتاً عن رجل، وعن الحقيقة الكامنة وراء اختفائه.
- وعن معنى ما يجري في تلك الأعماق التي ابتلعته. يتحول السرد إلى مزيج متقن من الإثارة
- والتشويق، واستكشاف فلسفي عميق لطبيعة السرد نفسه، وحدود الحقيقة، وقدرة الإنسان على فهم ما
- يتجاوز إدراكه المباشر. لا يمكن إغفال الصدى المتعمد والمتقن لرواية جوزيف كونراد الخالدة "قلب
- الظلام" (Heart of Darkness)، حيث يصبح البحث عن كونواي المفقود في أعماق المحيط بمثابة
- رحلة موازية للبحث عن كورتز في أدغال أفريقيا، رحلة نحو قلب المجهول وكشف للظلام الكامن،
- ليس فقط في البيئة المحيطة، بل في النفس البشرية ذاتها.
**زانيلي صوت البحر والضمير الناقد**
زانيلي ليست مجرد زوجة مكلومة؛ إنها ممثلة، امرأة قوية، وعاشقة للبحر تمتلك ارتباطاً عميقاً به، ولكنها في الوقت ذاته تراه بعين ناقدة وحادة. تقدم زانيلي منظوراً مختلفاً وجوهرياً، فهي تمثل صوت الوعي البيئي والإنساني في مواجهة ما يتعرض له المحيط. في حوارها مع فينيل، تكشف بمرارة عن حجم الكارثة البيئية:
- "يجري إلقاء 4 مليارات طن من النفايات الصناعية في البحر كل عام... لو كنا نمتلك أي وعي لكان
- الخجل قتلنا". كلماتها ليست مجرد إحصائيات؛ إنها صرخة احتجاج، ولفت انتباه إلى الثمن الباهظ
- الذي تدفعه الطبيعة جراء التقدم البشري غير المنضبط، وإلى العمى المتعمد الذي نمارسه تجاه تدمير
- بيئتنا. تضيف شخصية زانيلي بعداً إضافياً للرواية، موازنة بين عالم التكنولوجيا البارد والمجرد الذي
- تمثله الكابلات، وعالم الطبيعة المتألم، وعالم العلاقات الإنسانية المعقدة.
**براعة السرد وموضوعات العصر**
يستخدم لغة شعرية، غنية
بالاستعارات المبتكرة التي تجعل القارئ يشعر وكأنه يغوص بنفسه في تلك العوالم
المائية. وصف كونواي لتجربة الغوص بأن "كل شيء تتم تصفيته باستثناء الأزرق، إنه
مثل أن تكون في أغنية لـ مايلز ديفيس" ليس مجرد جملة عابرة، بل هو مثال على
قدرة ماكان على تحويل التجربة الحسية إلى فن لغوي بديع.
- لكن "تويست" ليست مجرد رواية عن البحر والمغامرة. إنها عمل أدبي يحفز التفكير بعمق في قضايا
- جوهرية وملحة في عصرنا. تتناول الرواية بجرأة مفهوم "الحقيقة" المتشظي والمراوغ في زمن تدفق
- المعلومات، وتشير إلى ميلنا البشري العام نحو "التوجيه الخاطئ" (misdirection)، سواء في
- تقديمنا لأنفسنا أو في فهمنا للآخرين والعالم. ينتقد ماكان بذكاء رداءة عصر الإنترنت، وما يسميه
- فينيل بـ"اليقين الفاحش في أيامنا" – تلك الثقة الزائفة والسطحية التي تمنحها لنا سهولة الوصول إلى
- المعلومات دون فهم حقيقي أو تفكير نقدي.
أحد أهم المحاور التي تدور حولها الرواية هو المفارقة الصارخة بين التكنولوجيا التي يفترض بها أن تقرب المسافات وتزيد التواصل، وبين واقع الاغتراب والفجوة المتزايدة في الاتصال الإنساني الحقيقي.
الكابلات
البحرية، التي تربط العالم رقمياً، تصبح رمزاً لهذا الانفصال. فبينما تتدفق
المعلومات بسرعة الضوء عبر هذه الألياف، يبدو أن الأفراد، مثل فينيل الذي يعاني من
إدمان الكحول ويكافح مع علاقاته الشخصية، يزدادون عزلةً وتفككاً. من الصعب، بعد
قراءة "تويست"، ألا نستنتج أن التكنولوجيا، بكل فوائدها الظاهرة، تأتي
بتكلفة باهظة على حساب جوهر إنسانيتنا وعلاقاتنا العميقة.
**الإنسان المحطم والكاتب البارع**
شخصية تبدو "محطمة تماماً"، ممزقة
بين عالم رقمي متسارع وعالم داخلي مضطرب، باحثة عن معنى في خضم فوضى المعلومات
وضياع القيم. إنها صورة قد تبدو متشائمة، لكن ماكان يقدمها بتعاطف وفهم عميقين،
دون إصدار أحكام سهلة.
- تتجلى عبقرية كولوم ماكان في قدرته السردية الفريدة. إنه، كما تصفه المراجعة الأصلية بحق، "راوٍ
- بارع في أوج عطائه". يتمتع أسلوبه بقدرة مدهشة ومزعجة في آن واحد: فهو يأخذ بيدك ليساعدك
- على إيجاد طريقك عبر تعقيدات السرد والشخصيات والأفكار، ولكنه في اللحظة ذاتها يجعلك تشعر
- بالضياع والتيه، تماماً كما يشعر أبطاله، وكما نشعر نحن في حياتنا المعاصرة. هذا التوازن الدقيق بين
- التوجيه والتضليل، بين الوضوح والغموض، هو ما يجعل قراءة "تويست" تجربة غامرة، مربكة، ولا
- تُنسى.
**خاتمة تحفة أدبية تستحق التأمل**
في الختام
تحفة فنية تجمع بين التشويق السردي والعمق الفلسفي والجمال اللغوي. إنها رواية تتحدى القارئ وتدعوه للتفكير في طبيعة الحقيقة، وتأثير التكنولوجيا على أرواحنا، وحالة كوكبنا، وتعقيدات النفس البشرية. بقدرتها على مساعدتك على إيجاد طريقك وفقدانه في آن واحد، تترك "تويست" أثراً باقياً، وتطرح أسئلة ملحة تظل تتردد في الذهن طويلاً بعد الانتهاء من قراءتها.
إنها بلا شك تستحق العلامة الكاملة (★★★★★) وتوصية قوية لكل من يبحث عن أدب
جاد، ممتع، ومثير للتأمل العميق. عمل يؤكد مكانة كولوم ماكان كواحد من أهم الأصوات
الروائية في عصرنا.